Background Image

عن المحاظر

نبذة عن المحظرة

لا أريد أن أعرفها بأنها رباط علمي يجمع صاحبه بين العلم والعمل، يبتعد فيه عن المشغلات ويتفرغ لهدف واحد وهو العلم والتعليم، والأخذ والعطاء، ولا أريد أن أعرفها بأنها جنة الله في دنيانا المجدبة، ونعمة الله في أرضنا المقحوحلة، وأنس القلوب، وشفاء الأبدان، وغذاء الروح، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فكل ذلك غمط لحقها وظلم لمقامها، فالمحظرة عبارة عن تركة تقسم، عن ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسل من قبله: (إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

المحاظر الموريتانية:

المحاظر الموريتانية جامعات بدوية ومدارس تقليدية جادة لكنها تتسم بالبساطة الكبيرة وعدم التكلف والتعقيد ويستطيع كل أحد أن يتعلم فيها، ولا تقيد المتعلم بوقت ودوام معين، كل طالب على حسب وسعه وطاقته وقدرته، أهم شيء أن يتعلم ويرفع الجهل عن نفسه. المحاظر الموريتانية تخرج العلماء الكبار في مجالات شتى، يشرف عليها شيخ يدرس علوم القرآن والحديث والعقيدة والسيرة والفقه والنحو والصرف والبلاغة وأصول الفقه وأنساب العرب، على مدى ستة عشر ساعة يومياً وربما تزيد، وبدون كلل أو ملل ولا ضجر، ولا يأخذ على ذلك أجره بل يريد أجره من الله وحده ولسان حاله يقول: (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). والغريب أنها ازدهرت في البوادي، مشكِلةً استثناءً لنظرية العالم الجليل والمؤرخ النبيل ابن خلدون التي تقول: إن العلم صناعة حضرية لا شأن للبادية فيها، فهي ابتكار موريتاني فريد من نوعه لتدريس العلم والمعرفة بأعلى المعايير والمستويات في ظروف بدوية صعبة وأوضاع اقتصادية ومناخية قاسية. وتُمكّن المحظرة طلابها من حفظ المتون الكثيرة وفهمها واستيعابها، مما لا يوجد له نظير في الجامعات والمعاهد الحديثة. وبفضل الله أولاً ثم بما تقدمه المحظرة، حافظت موريتانيا على هويتها الحضارية، واستطاعت نشر الإسلام وثقافته واللغة العربية في إفريقيا السمراء، كما تمكنت من مقاومة الاستعمار الثقافي الفرنسي وكثير من برامج التنصير. وساهمت المحاظر في بقاء هوية البلاد وتحصين المجتمع ضد أي وافد فكري لا ينطلق من المعتقدات الإسلامية. ويدين الموريتانيون للمحاظر بالكثير من الفضل، لأنها حافظت على المجتمع حضارياً وثقافياً ووفرت فرص التعليم المجاني لجميع الموريتانيين بدون استثناء. فقد تخرج من المحاظر الموريتانية وزراء ورؤساء دول ومثقفون ومسؤولون في شتى التخصصات، وخلاصة القول أنها شكل تربوي جديد ابتكره الإنسان الشنقيطي كصمام أمان للهوية الدينية والثقافية والحضارية، وصرحًا لتكوين الأجيال المتعاقبة في ظروف استثنائية. والحاجة ماسة جداً للمحاظر وخصوصاً في هذا الزمان، ومن يستهين بشأنها سيخسر كثيراً، لأنها حاضنة للشريعة وطلابها.

منهج المحظرة:

منهج متميز في ترتيب العلوم، حيث يبدأ الطالب بالقرآن والسيرة ويتدرج في العلوم من فقه ونحو، وقد تختلف طرق المحاظر الموريتانية في ترتيب العلوم والأولويات لكن هناك أمرًا مهمًا يجمع هذه المحاظر ألا وهو ضرورة الحفظ، وهو من خصائص الثقافة الإسلامية التي تتميز بها عن الثقافة اليونانية والرومانية التي كانت سائدة على حدود الفضاء الثقافي الإسلامي، وهي ثقافة عقلية بشرية ضحلة جداً لانعدام الحفظ والتركيز فيها. في المحظرة يُدَرَّس الناس علمًا صحيحًا عمليًا مجردًا عن التنظير يدرس فيفهم فيحتاج صاحبه إلى تطبيقه في نفسه ومن بعده حتى يكون حجةً له لا عليه، فيحقق بذلك النفرة المأمور بها: ( لِّيَتَفَقُهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْلَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

أقسام المحاظر:

  • محاظر جامعة: وهي التي يجلس للتعليم فيها شيخ متفنن عالم بكل العلوم الشرعية، متبحر قد كملت أهليته من كل النواحي العلمية.

  • محاظر متخصصة: وهي التي تخصصت في علم من العلوم الشرعية كالفقه أو النحو أو التفسير.

  • محاظر قرآنية: وهي التي تعتني بحفظ القرآن الكريم وعلومه فقط.

المرابط:

شيخ المحظرة إنسان بسيط جدًا متواضع إلى أبعد الحدود يحمل في قلبه وبين جوانحه هم أمته، لم يجد بدأ من أن يجود بعمره لخدمة دينه وبلده، وأبناء المسلمين فجاد به فهو وقف خيري ناطق متحرك قد أوقف عمره على التعليم، ونشر العلم.

الشيخ في المحاظر هو الثروة الأساسية والمعين الثر وشريان الطلاب النابض فشيخ المحظرة أب حان وموجه ومعلم، والتلاميذ كلًّ يغرف من علمه على حسب تخصصه، وله يد فيما سواه من العلوم، ولا يعين على هذا النعيم الدنيوي بعد الله غير المحظرة بأمر الله تعالى.

المعيار في اختيار شيخ المحظرة

المعيار عند الشناقطة في اختيار شيخ المحظرة أن يكون متفننًا وواسع الإطلاع وذو ثقافة واسعة جدًا ولديه عقل راجح. ومن ذلك ما يروى أن النابغة القلاوي - رحمه الله - لما أراد طلب العلم في المحاظر كان كلما جاء إلى شيخ يريد القراءة عليه سأله الشيخ أي فن يريد قراءته، فيتحول عن تلك المحظرة إلى أخرى. إلى أن أتى محظرة العلامة أحمد بن محمد العاقل - رحمه الله - فلما أخبره برغبته في القراءة عليه قال له "مشِّ" (وهي كلمة تعني: إقرأ)، ولم يسأله عن أي فن يريد قراءته. فعرف أنه متمكن في كل العلوم، فألقى عصى الترحال وزاحمه بالركب حتى توفاه الله.

ومن يقرئ كل الفنون في المحاظر يعبرون عنه بأنه "لا يرد لوحاً" لأن الناس تختلف فيما تكتبه في ألواحها. ومن أدب المحاظر أن الشيخ إذا رأى التلميذ كتب فنين في آن واحد نهاه، ويتمثل بالنظم المعروف:

وفي ترادف الفنون المنع جا
إذ توأمان استويا لن يخرجا

والمحظرة إلى ذلك تعاون ممتد لما بعد الموت بمشيئة الله. فالناس فيها شركاء في حمل الرسالة، أمناء عليها، يجب عليهم ما يجب على طلبة العلم وعلى الرفقاء، وعلى الإخوة. فمثلهم فيها كمثل الأنبياء أبناء علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد. وطلبة العلم ورثة الأنبياء، ولتحصيل هذه الوراثة يحتاج الطالب إلى أن يأخذ من شيخه ثلاثة صفات هي التي تجعل الشيخ وارثًا للنبوة حقًا بارزًا مشارًا إليه، وهي: التزكية والأدب والتعليم.

فالوارث الحق للنبوة من يستطيع المزج بين هذه الثلاثة بصدق، ومصداق ذلك في القرآن الكريم، قوله تعالى:

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)

وقال تعالى:

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

وقال تعالى:

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)

وقال تعالى:

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر)

وقال تعالى:

(وَذَكِّرْ فَإِنْ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)

ولكي يستفيد طلبة العلم من هذا المعين المتحرك المتمثل في شيخ المحظرة، لابد أن يكونوا يداً واحدة على الدهر، يداً واحدة على الخير، يداً واحدة على البر والتقوى. أو بمعنى آخر، لا بد أن يأخذوا أنفسهم بالعزم، ويلزموا أنفسهم بشروط الفلاح، هرباً من أسباب الخسران:

(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)

مستقبل المحاظر في المشرق:

1. الحفظ والفهم:

تساعد المحظرة مساعدة منقطعة النظير على حفظ العلوم الإسلامية، وإن كانت قد ساعدت على ذلك في الماضي، فما زال في صبابة القائمين عليها وحالبي درها قدرة فائقة على الحفظ، وتميز تام فيه، فالطالب المحظري ما زال رمز الحفظ، وقدرته عليه منقطعة النظير، تساعده على ذلك عوامل بيئية متوفرة في أجواء أغلب المحاظر، وعوامل موضوعية وتاريخية يضيق المجال عن تفصيلها. وإن كان من المناسب هنا الإشارة إلى أن بيئة المحظرة ذات قدرة كبيرة على تنمية المحفوظات نفسياً، وتوفر للطالب الحافز النفسي على الحفظ، والقدوة المشار إليها في ذلك، كما توفر له في الأغلب الأجواء المناسبة للحفظ بعيداً عن ضوضاء المدينة، وحشر الطالب مع أمثاله في حجرات ضيقة تأخذ كل وقت التحصيل، ولا يبقى للمراجعة إلا وقت التعب والإرهاق وكلل الذهن.

2. الموسوعية:

ومن الشمعات المضيئة في مستقبل المحظرة ما توفره من موسوعية تشمل كل العلوم الشرعية واللغوية، أو بعبارة أخرى تشمل العلوم المقصودة لذاتها، ووسائلها الضرورية للحصول عليها، فلا تترك مجالاً من مجالات المعارف الشرعية إلا تطرقه بطريق مباشر أو غير مباشر، بدءاً بالفقه (نصوصاً وشروحاً) فالفقه المقارن، فالقواعد الفقهية، فأصول الفقه، فمصطلح الحديث، فدراسة نصوص القرآن والسنة أخيراً. وبدءً في مجال اللغة بدراسة المفردة اللغوية من أصلها الأول "الشعر الجاهلي" فما يليه من أشعار عصور الاحتجاج، وما يتبع ذلك من أشباه ونظائر تعتنى بها المثلثات والمقصورات والممدودات. فالنحو والصرف بأدق مستويات الموسوعية، فالبلاغة بمعانيها وبيانها وبديعها، فالعروض. فكل هذا التوسع فى المعارف الشرعية واللغوية والاهتمام بها يجعل المحظرة نموذجاً نادر المثيل إن لم يكن معدوم في هذا العصر.

3. الاستيعاب:

وتمتاز المحظرة أيضاً بمستوى من الاستيعاب في الأساليب الشكلية لتدريسها تتجاوز مجرد الوقوف على حل مشكل النص، والوقوف عند ظاهره إلى استيعاب كلي لكل نص، يجعل الطالب يتعرف على معاني كل المفردات اللغوية التي في النص، ودلالات كل الأساليب اللغوية المستخدمة فيه، بالإضافة إلى آراء أغلب نقاد النص المدروس فيه، واستدراكاتهم عليه، ما يجعل الطالب يعرف إضافة إلى معرفته بالنص وبفكرته العامة تاريخ النص، وموضع مؤلفه بين المؤلفين، وما تطور به النص بعد المؤلف من تطورات، كما يعرف أهم مدارس المؤلفين في مجال النص، ويحفظ أهم أعيانهم. هذا بالإضافة إلى النكت والفوائد الكثيرة التي يجود المشايخ في المحاظر بإتحاف كل طالب بها في أي مكان كان مناسباً لتقديمها. ما يجعل طالب أي نص يخرج منه وقد ألم بكثير من قواعد مختلف الفنون الأخرى، فلو كان النص فقهاً مثلاً لخرج منه يعرف أهم الصيغ الصرفية، وقدراً كبيراً من المفردات اللغوية، وذوقاً سليماً في التراكيب، والفروق بينها، وعدداً كبيراً من أعلام الفقه، وأبرز المذاهب والآراء المخالفة لصاحب النص في ما اختاره من أقوال وأحكام. لذلك صدق قائلهم حين قال: (من أتقن فناً أداه إلى سائر الفنون).

4. الإخلاص:

ومن الدرر النادرة، والنفائس شبه المنقرضة الإخلاص وإرادة الله بطلب العلم، وتوفر المحظرة اليوم منه ما لا يوفره غيرها أياً كان إلا لمن رحمه الله واجتباه، فبعد المحظرة عن المنافسات، والإعلام، والتكالب على الحياة المعاصرة، وزهد الناس في العلم المحظري، وما يلقاه الطالب المحظري من عنت وتعب ومشقة، وصعاب وظمأ ومخمصصة، وما يلقاه من نظرة دونية من طرف خفي يجعله أقرب إلى الإخلاص في طلب العلم من غيره من كل طلبة العلوم. وإذا انضاف إلى هذا كثرة حديث طلبة المحاظر عن الإخلاص في طلب العلم، وحرص مشايخ المحاظر على التنبيه على هذا تأكد تقدم المحظرة وصدارتها في توفيرها للإخلاص ومساعدة طلابها عليه.

5. القدوة:

ينتصب طلاب المحاظر اليوم قدوة لكل فتى جاد يريد الله والدار الآخرة، يجمع بين العلم والعمل، بين تعلم السنة والتزامها، ويحيون سمتاً من الجد في الطلب، والمثابرة عليه، وتحدي الظروف والصعاب، منقطع النظير. فهم اليوم من أقرب أهل الأرض إلى السمت الأول أحسبهم والله حسيبهم والطريق الأسلم في طلب العلم والعمل به ولو جمعوا إلى جمال المقصد وسموه جمال الوسيلة، وصلاح المركب لقاربوا الملائكة، وكتب لهم أجر من يأتي بعدهم أو يعمل بمثل عملهم؛ إذ من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولو زاد إلى ذلك الدعوة إلى ما هو عليه من الخير بلسانه كما يدعو إليه بسلوكه لكان ذلك أفضل له، وأجزل أجراً ومثوبة ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.

6. شاهدية العمل للعلم:

في المحظرة يبتعد الطالب عن صخب الحياة وتعقدها وكذلك قدرة أكثر أهليها على التخلي عن الشبهات، وأخذ أنفسهم بالعزائم والتطبيق الكامل لما يقرؤون بعد أن عايشوه، وأبعد الله عنهم كثيراً من الفتن المتماوجة تماوج الليل المظلم، إن لم يصبح ضحيتها وقد امتلأ قلبه بالشبهات، وعينه بالشهوات، وفكره بالتشويش، فلا دنيا ينصح، ولا ديناً يصلح، وحسب خير الضحايا نجاحاً، أن يخرج منها كفافاً لا له ولا عليه. أما طلاب المحاظر فقد أمتن الله عليهم ببيئات إيمانية في أغلبها يجد فيها الطالب من الخلوة والأنس بالعبادة، والعيش مع العلم ما يُبقي فطرته حية سليمة، ويعطيه القدرة التامة على التطبيق لما تعلم، فإذا أخذ بذلك جعل عمله شاهداً على صحة علمه، وحاله شاهداً على سلامة مقاله، وهي والله منة قلت، ومنيحة عزت، والله يحكم ما يشاء، ويعطي ما يريد.

7. للسلم عتبات:

يجد طالب المحظرة القدرة التامة على صعود أعلى سلم العلم دون تكلف مشقة، فلا تتكاثر ظباء العلم على خداش الفهم، فيصعد سلم العلياء إلى حيث منتهى قدراته في طلب العلم دون تشويش، آتياً البيوت من أبوابها لابساً لكل حال لبوسها، بينما يضيع وقت نظيره في الجامعات والمعاهد ومختلف المدارس في مطاردة صيد علم تكاثر عليه، فله من كل علم باب، وفي كل باب طلاب، فلا يخلص لواحد، ولن يخرج توأمان في وقت واحد. وهذا ما يوصل إلى النقطة التالية، وهي:

8. قوة المنهاج:

فالمنهاج المحظري بني على نظرة عميقة تعاقب عليها المشايخ من قرون، حتى نضجت، واستوت على عودها، فأصبح العلم يؤخذ بالتسلسل في مقدماته، وأبوابه، ونتائجه وثمراته، ثم للعلوم في ما بينها تسلسل عجيب. فالبداية عندهم بعلوم الآلة، فيبدؤون باللغة العربية بعد تحصيل القرآن غالباً، حتى يأخذ الطالب من المفردة اللغوية ما يساعده على فهم ما يلي من نصوص وعلوم، ولا تنتهي هذه المرحلة حتى يقترب من البلوغ، فيوقف البحث اللغوي لصالح البحث الفقهي فيدرس ما يسمى بفرض العين، ويقتصر فيه على أمهات مسائل الفقه الجزئية العبادية، وكذا مبادئ العقيدة الإسلامية، ثم يدرس النحو والصرف زماناً حتى إذا حصل منهما مستوى كبيراً عاد إلى الفقه فأكمل دراسة مطولاته، ثم عاد إلى النحو والصرف فأوفاهما حقهما، ثم بدأ مع القواعد الفقهية، وأصول، ثم عاد إلى العقيدة والاختلافات المذهبية في طرق توصيل وبرهنة العقائد الإسلامية وهكذا. وطلاب المحاظر بحمد الله معافون من تلك البلية المنهجية التي ابتلي بها كثير من طلبة الجامعات والمعاهد والمدارس النظامية، فالمنهاج واضح عندهم وجلي، والسلم متسلسل، توصل كل عتبة منه إلى التي فوقها في تناسب ويسر، ففي كل علم عدة نصوص تناسب كل مستوى يرتقي الطالب مع النص إليه فالذي يليه كما يرقى السلم المتأني، فلا تنقطع نفسه، ولا يندهش، ولا يتشوش ذهنه، ولا يتشتت تفكيره.

9. رفد العزة بالقوة:

ومن الميزات التنافسية النوعية عند طلاب المحاظر "عزة النفس"، وهي السر الذي قهر به النجباء الظروف الصعبة، والأحوال العسيرة، والشدائد الماحقة، والإغراء المتتالي، فأفنوا أعمارهم في طلب العلم لا يثنيهم فقر، ولا يشغلهم غنى. يجدون اللدة قد لعبت به أمواج الحياة كل اللعب "تعلو به طوراً وطوراً تسفل"، فتارةً غنياً، وتارةً وجيهاً، وتارةً موظفاً، وتارةً حامل شهادة، وتارة صاحب منصب وسياسة، فلا يغريهم ذلك البريق، ولا يسيل منهم ذلك الريق. ونكاد نجزم أن طلاب المحظرة في مقدورهم وحدهم قول الحق؛ إذ لا منة لأحد حتى الآن على المحظرة وقد عاشت قروناً على العفاف، وتتزود من الصبر، وتغتني من القناعة، فلا منة لأحد على طلبتها، ولا مانع يحول بين خريجها والصدع بالحق في وجه من أحب ومن كره.

10. الوارث الحق:

وألمع شمس تشرق في مستقبل طلاب المحاظر قدرتهم على أن يكونوا الوارثين حقاً للنبي صلى الله عليه وسلم، في شمولية رسالته، وسموها، وعالميتها، فقد جمعوا العلم من كل حدب وصوب، واستوعبوا كل جزئياته، ووقفوا على كل كلياته، فجمعوا بين النظر الجزئي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، والنظر الكلي الذي ينظر إلى المقاصد والغايات، والأهداف والمرادات. وكأنهم في ذلك كبَنَّاءٍ مجيد، بنى داراً، فأحسن وضع أسسها، وأجاد تخطيطها وهندستها ثم عمد إلى كل لبنة من لبناتها فنقاها من كل عيب، وكسر وتشويه فخرج البناء تام القواعد محكمها، جميل الجزئيات سليمها، فكذلك طالب المحظرة المجيد حين يتخرج منها. فإذا كانوا كذلك، وجمعوا إلى العلم العمل، وهو ميسور عليهم، لتمام العلم، وشمول الفهم، وأنضم إلى ذلك مصير كل طالب علم جواد، وهو أن يكون خليفةً لشيخه في التعليم والتدريس والتوصيل، كان بذلك تام الوراثة للنبي صلى الله عليه وسلم يبلغ دينه، ويزكي بسلوكه ومواعظه نفوس تلامذته، ويذكرهم بحاله ومقاله بالدار الآخرة.