المحاظر الإسلامية

المحاظر الإسلامية هي مؤسسات تعليمية تقليدية نشأت في موريتانيا، وتُعتبر نموذجًا فريدًا للتعليم الإسلامي في العالم العربي. تُعنى هذه المحاظر بتدريس العلوم الشرعية واللغوية، مثل الفقه، والتفسير، والحديث، والنحو، والصرف، والبلاغة، بالإضافة إلى علوم أخرى كالحساب والفلك.
تُركز المحاظر على الحفظ والفهم، وتعتمد على نظام تعليمي حر، حيث يختار الطالب الشيخ الذي يدرس عنده، والعلوم التي يرغب في تعلمها، والمدة الزمنية التي يقضيها في الدراسة. كما تتميز المحاظر بالمساواة بين الطلاب، فلا يُنظر إلى أصل الطالب أو طبقته الاجتماعية، بل يُركز على قدراته العلمية ورغبته في التعلم. وقد لعبت المحاظر دورًا هامًا في الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية في موريتانيا، وكانت حصنًا منيعًا ضد الاستعمار الثقافي.
مدرسة النجاة الأهلية بالزبير

مدرسة النجاة الأهلية في الزبير تُعد مثالًا حيًا على تأثير المحاظر الموريتانية في نشر التعليم الإسلامي خارج حدود موريتانيا. تأسست هذه المدرسة عام 1923م على يد العلامة محمد أمين الشنقيطي، وكانت تُعنى بتدريس العلوم الشرعية واللغوية، بالإضافة إلى مواد أخرى كالرياضيات واللغة الإنجليزية، وساهمت في تخريج العديد من العلماء والمثقفين في العراق ودول الخليج.
واجهت المدرسة تحديات عدة، من بينها معارضة بعض أفراد المجتمع لفكرة تعليم البنات، إلا أن الشنقيطي كان من الداعين إلى فتح مدارس لتعليمهن، مما يدل على رؤيته التقدمية.
العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله

أبصر محمد أمين نور الحياة في مضارب قبيلته ((الحَسَنيين)) سنة ١٨٧٦م في صحراء شنقيط، تلك القبيلة التي تنتمي إلى أشراف العرب والتي قيل فيها: "إن الشعر العربي بنى بيته فيها". في إحدى المحاضر (الكتاتيب) التي انتشرت في بوادي شنقيط، أقبل في طفولته على ارتشاف العلم فحفظ القرآن الكريم، ودرس مبادئ الفقه والسيرة النبوية، وقرأ دواوين الشعر القديم، ولم يقنع بما حَصَّلهُ من زاد علمي في بلده بل وجد في الرحلة سبيلاً إلى استكمال علمه، وبدأ رحلته وهو في الخامسة والعشرين من عمره متوجهاً إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، وكانت رحلة الحج تتيح للمرتحل المرور بالمراكز العلمية المنتشرة على مسار رحلته، والتعرف إلى علمائها، والتزوّد بما تحفل به هذه المراكز من أصناف العلوم.
ومن أبرز طلاب الشيخ ومن تأثر به خلال تلك الفترة ولزمه ملازمة تامة علامة نجد وفقيهها عبدالرحمن السعدي رحمه الله، حيث أنه أحب النحو وعلوم الآلة واتباع الدليل بسببه بل يُعتبر أول من أدخل علوم الآلة إلى نجد هو الشيخ الشنقيطي على يد تلميذه البار السعدي رحمهم الله جميعاً.
وخصوصاً إذا تبنته القبائل وأصبح جزءاً من مكونهم الثقافي كما هو الحال في بلاد شنقيط. وقد قامت أول محظرة في المشرق في جنوب العراق في مدينة الزبير وتحولت إلى مدرسة حكومية إلى اليوم عمرها أكثر من مائة سنة سماها مؤسسها: العلامة الفقيه النحوي المحقق محمد أمين فال الشنقيطي رحمه الله. المشهورة بمدرسة ((النجاة)) حيث تخرج منها علماء ووزراء ومسؤولين في العراق وفي الكويت وفي الأحساء وفي حائل وفي ربوع الجزيرة العربية.
وفي رحلة الشيخ رحمه الله الدعوية والتي كان يبحث فيها عن مقر لنشر دعوته أقام في مدينة حائل دروس علمية في منزل تلميذه صالح القاضي رحمه الله وانتفع منه خلق كثير، وكذلك في نجد وخصوصاً مدينة عنيزة وكانت له صلة وثيقة بأهل عنيزة حيث أنهم أحبوه وأحبهم ومكث عندهم أربعة أعوام تُعلم فيها الناس ليلاً ونهاراً.
وقد ترجم له الاستاذ الفاضل:

عبداللطيف الدليشي الخالدي في كتابه: (الشيخ محمد أمين الشنقيطي، حياته - مذكراته - علاقته بشيوخ وملوك الجزيرة العربية) وتناول مؤلفون وأدباء ومؤرخون سيرة الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله؛ فقد نشر العلامة حمد الجاسر نبذة عنه في مجلة: (العرب)، مشيراً فيها إلى أن عدداً من جيل التعليم المبكر في نجد قد تتلمذ عليه، ومن بينهم علامة عنيزة الشيخ عبد الرحمن السعدي، وأستاذ الجيل التعليمي فيها صالح بن صالح، وهذا السر أن ترى عند الشيخ السعدي وتلميذه ابن عثيمين رحمهم الله فصحاةً وبلاغةً ونَفَساً نحوياً قد لا يوجد عند أكثر أهل تلك البلاد.
كما ذكر أن الشيخ محمد أمين الشنقيطي كان على علاقة وثيقة بعنيزة وأهلها، وتربطه صداقة عميقة مع وجيه عنيزة المعروف علي بن عبد الله بن عبد الرحمن البسام، المقيم بين عنيزة والبصرة والزبير. وأشار إلى أن الشيخ الشنقيطي زار مدينة عنيزة مرتين، وأقام بها نحو عامين، وقابل الملك عبد العزيز في منزل محمد سليمان الشبيلي، وقام برحلات إلى الأحساء وعمان، واليمن، والهند.
فالمحظرة وسيلة بدائية مرنة سهلة تتكيف مع كل التضاريس والبيئات ذات أدوات بسيطة ((لوح وقلم ومحبرة)) لا تشكل خطراً أمنياً ولا فكرياً لأنها مسالمة تبحث عن بناء الشخصية الإسلامية عن طريق العلم الشرعي الأصيل الذي فيه مصالح العباد وجميع البشر. وفي المحاظر تكافل اجتماعي وقضاء على أسباب الجريمة ومحو الجهل عن البشرية حيث أن هذه المحاظر يسكنها الُمُعْدَمين والآفاقيين ممن تقطعت بهم السبل ولا يرغبون في شيء إلا التعلم ونَبذ الأمية ولوتُركوا لكانوا قُطاع طرق ومفسدين في الأرض فهي مدارس مجانية في الهواء الطلق يتلقى فيها الطالب علوم القرآن والأدب والتاريخ والسيرة والفقه والحديث والحساب.
وبهذه الطريقة تم القضاء على كوارث بشرية واجتماعية كثيرة لا يمكن حصرها في هذه السطور القليلة. وحسبي أن أقول في نهاية حديثي أن من كان ذاهمةٍ ونشاطٍ ويريد أن يعيشَ عمراً فوق عمره أن يبادر إلى تبني المحظرة كمشروع عمر له ولغيره من أبناء جلدته.
بماذا تمتاز المحاظر؟
مما تمتاز به المحظرة الانقطاع الكلي للحفظ ولو أدى ذلك إلى البعد عن الأهل والتغرب عن الوطن وهذا المسلك من أهم الأساليب التي يقوم عليها منهج الحفظ في المحظرة ولم يزل الشيوخ يحثون طلابهم على الأخذ بوصية الشيخ حماد بن الأمين المجلسي بخصوص هذه المسألة حيث يقول:
له تغرّب وتواضع واتَّبِعْ و جُعْ و هُن و اعص هواك و اترع
حتى ترى حالك حال المنشد لو أن سلمى أبـصـرت تـخَـدُدِي
ورقةً في عـظـم سـاقي ويدي وبعد أهلي وجفاء عُؤدي
قصة عجيبة
أن من طلاب المحاظر من يُضرب به المثل في الانقطاع للعلم والتفرغ له، فقد مكث محمدو بن حبل سبع سنين لدراسة اللغة لم يزر فيها أهله مع قربهم منه، وكان أحمد بن كداه الكمليلي مقيما بإحدى المحاظر لدرسة ألفية ابن مالك، فنفد زاده، فلم يحمله ذلك على مغادرة المحظرة، وظل يكابد الغربة وضيق ذات اليد إلى أن أكمل الألفية فكتب إلى أهله هذه الأبيات:
والمراد بأبي مالك : الجوع إذ هو علم عليه. والمراد بابن مالك الألفية. وطلب الشيخ سيد عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي العلم أربعين سنة طاف خلالها محاظر شنقيط وحواضر المغرب وقد أشار إلى بعض ثمار ذلك السعي المحمود في آخر مراقي السعود فقال:
الختام
بعد هذه الجولة المقتضبة والقصيرة أختمها لكم بهذه الأبيات التي تتناول طرفاً من أدب المحاظر الموريتانية.